إن من الأهمية البالغة لكل مسلم أن ينضبط عنده ميزان الأولويات بشكل منطقي
وصحيح حتى لا يقدِّم المهم على الأهم، أو يحرص على المفضول ويترك الفاضل،
كمن يحرص على أداء بعض النوافل والمستحبات ويفرط في أداء الفرائض والواجبات
أو يتساهل في فعل المحرمات، وكان ابن عمر يقول لأهل العراق: ما أسْأًلَكم
عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وتسألون عن دم البعوضة.
والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على
ثيابهم، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه.
وكالذي سأل شيخاً وقال: إني زنيت وصارت المرأة حاملاً من الزنا فماذا أصنع؟
فقال له الشيخ: ولماذا جعلت المصيبة مصيبتين، لماذا لم تعزل؟ فقال: بلغني
أن العزل مكروه، فقال له الشيخ: بلغك أن العزل مكروه ولم يبلغك أن الزنا
حرام؟
والفهم الصحيح للدين يستلزم معرفة فقه الأولويات وكيفية الموازنة والترجيح
بين المصالح والمفاسد إذا تعارضت فكما يقال: (ليس العاقل الذي يعلم الخير
من الشر، ولكن العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين).
وهذه بعض الأمور التي يجدر التنبيه إليها:
1ـ على من يقوم بالإصلاح أن يصلح نفسه أولاً ثم من يعوله، والبدء بالإصلاح
الداخلي للمجتمع المسلم وتقويته قبل الاهتمام بفضح مخططات الأعداء
ومؤامراتهم، فما كان للأعداء أن يتسلطوا لولا الفساد والضعف الداخلي من
الابتعاد عن دين الله تعالى، والظلم بشتى صوره وأشكاله، وعدم تعيين الأكفاء
في المناصب، والفساد الإداري والمالي، والتقصير في محاربة الفقر،
والتفرقات العنصرية سواء بين المناطق والقبائل أو بين الجنسيات، ـ والأصل
في ذلك أن لا يفرق بين أحد وغيره إلا على أساس الكفاءة والقدرة ـ ، وعدم
الاهتمام بالعلم والتعليم بالشكل المطلوب، والتقصير في تقدير العلماء
والمبدعين بل وقد يصل الأمر إلى محاربتهم والتضييق عليهم.
ومن الضعف الداخلي: التفرُّق والاختلاف بسبب مسائل اجتهادية من فروع الدين
لا ينبغي المعاداة والتفرُّق من أجلها، فليس من مصلحة الإسلام أن يحارِب
أحدٌ مَنْ يخالفه في فروع الدِّين ويترك اليهود والمشركين، فيَسْلَم أعداؤه
منه ولا يسلم منه أخوه المسلم، مع أنَّ الحقَّ قد يكون مع أخيه وليس معه
كما يحسب، فليس من العقل والحكمة في شيء إذا دخل عدوٌّ على بيت أحد، أن
يختلف أهل البيت فيما بينهم في أمور ثانوية ويتركوا عدوهم يفعل ما يشاء!
لكن المصيبة أن هناك من يفعل هذا فيضخم الخلافات الفرعية ويغفل عن نقاط
الاتفاق والكليات المشتركة وهو يحسب أنه يدافع عن الإسلام.
وقد أمر الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمشركين: {وَإِنَّا أوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، هذا مع أنه صلى الله
عليه وسلم مؤيَّدٌ بالوحي ولا يمكن أن يكون الحق إلا معه، وذلك تعليماً
للناس بأن يكونوا منصفين في حوارهم مع من يختلفون.
2ـ تقديم الاهتمام بأعمال القلوب على أعمال الجوارح، لأنه إذا صلح القلب
صلح سائر العمل وإذا فسد القلب فلا عبرة بصلاح الظاهر عند فساد السرائر،
فالإكثار من العبادات الظاهرة والاجتهاد فيها من غير إصلاح للباطن قد يقترن
بما يحبط العمل ويفسده، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم
(يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ
صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ،
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)
متفق عليه، وفي رواية في البخاري: (يَقْتُلُونَ أهْلَ الإسلامِ وَيَدَعُونَ
أهْلَ الأَوثَانِ)، فهؤلاء مع كثرة عبادتهم يمرقون من الدين ويخرجون منه،
وقد علَّل كثير من العلماء ذلك بأنَّ في باطنهم من الكبر الخفي الذي يقودهم
إلى تضليل المسلمين أو تكفيرهم ويجعلهم يعتقدون أنهم وحدهم على الحق
المبين ومن سواهم على الضلال، وهذا الحديث وإن كان في الخوارج إلا أنَّ
فِكْرَهم ما زال موجوداً، فالحذرَ الحذرَ من فكر الخوارج وتطرفهم
ومغالاتهم.
3ـ ومن الأولويات: البدء بصغار العلم قبل كباره، وتقديم التربية بالقدوة
الحسنة والأفعال الصالحة على مجرد الكلام الخالي من التطبيق، فلما جيء إلى
عمر رضي الله عنه بسيف كسرى ومنطقته وزبرجده قال: إن أقواماً أدوا هذا لذو
أمانة، فقال علي رضي الله عنه: «إنك عففت فعفت الرعية» ([1]).
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى: «أما بعد، إن أسعد الرُّعاة من سَعِدت
به رعيَّتُه، وإن أشقى الرعاةِ عند الله من شقيت به رعيَّتُه، وإياك أن
ترتعَ فيرتعَ عُمَّالُك» ([2]).
وكان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهل بيته فقال: «إني نهيت الناس كذا
وكذا، وإن الناس لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأيم الله ! لا أجد
أحداً منكم فعله إلا أضعفت له العقوبة ضعفين» ([3]).
وفي رواية أخرى: «والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم
وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت
عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني، فمن شاء فليتقدم ومن شاء
فليتأخر» ([4]).
وفي عهد السلف كان الكثير من الناس يصحبون أهل العلم للاستفادة من سمتهم وأخلاقهم قبل أن يستفيدوا من كلامهم.
4ـ تقديم الفرض والواجب على السنة والنفل، فلا يقوم أحد مثلاً بأداء بعض
النوافل إذا كان في أدائها إخلال بالواجب، كمن يشق عليه صيام النفل بحيث لا
يستطيع أداء واجباته على الوجه المطلوب.
ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم للزوجة أن تصوم تطوعاً، وزوجها حاضر إلا بإذنه، لأن حق الزوج واجب عليها، والصوم نافلة.
قال بعض العلماء: (من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور).
وقال أبو سليمان الداراني: كلُّ مَنْ كان في شيء من التطوُّع يلذ به، فجاء
وقت فريضة، فلم يقطع وقتها لذة التطوع، فهو في تطوُّعه مخدوع ([5]).
وكان بعض المتقدمين يحج ماشياً على قدميه كل عام فكان ليلة نائماً على
فراشه، فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه لسقي أمه
الماء، فتذكر حجه ماشياً كل عام و أنه لا يشق عليه، فحاسب نفسه فرأى أنه لا
يهونه عليه إلا رؤية الناس له و مدحهم إياه، فعلم أنه كان مدخولاً ([6]).
وتقديم فرض العين على فرض الكفاية ومن ذلك أن رَجُلاً جَاءَ إِلَى
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ
أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ. متفق
عليه.
5ـ تقديم الاهتمام بترك المنهيات على الاهتمام بفعل المأمورات، ولهذا قال
صلى الله عليه وسلم: (فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ،
وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) متفق
عليه، فهذا يؤخذ منه أنَّ النَّهيَّ أشدُّ من الأمر؛ لأنَّ النَّهيَّ لم
يُرَخَّصْ في ارتكاب شيء منه، والأمر قُيِّدَ بحسب الاستطاعة، ورُوي هذا عن
الإمام أحمد.
وعن أبي هريرة أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له : (اتَّقِ
المَحَارِمَ تَكُنْ أَعبدَ النَّاسِ) رواه الترمذي. وقالت عائشة رضي الله
عنها: من سرَّه أنْ يسبق الدائبَ المجتهدَ فليكفَّ عن الذنوب. وقال الحسن:
ما عبد العابدون بشيءٍ أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه. وقال ميمون بن
مِهران : ذكرُ اللهِ باللسان حسن، وأفضلُ منه أنْ يذكر اللهَ العبدُ عندَ
المعصية فيمسك عنها.
ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البِرِّ يعملُها البرُّ والفاجرُ، وأمَّا
المعاصي فلا يتركها إلا صِدِّيق. وقال بعض السَّلفِ: تركُ دانق مما يكره
الله أحبُّ إليَّ من خمس مئة حجة.
وقال ابنُ المبارك: لأنْ أردَّ درهماً من شبهة أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّقَ بمئة ألفٍ ومئة ألف ، حتّى بلغ ست مئة ألف ([7]).
وقال مَالِكُ بنُ دِينَارٍ: لَأنْ يَترُكَ الرَّجُلُ دِرْهَماً حَرَاماً
خَيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَتَصَدَّقَ بمئة أَلْفِ دِرْهَمٍ ([8]).
وقال سفيان الثَّورِي: كُلِ الحَلالَ وَصَلِّ آخِرَ الصُّفُوفِ تُقْبَلُ
مِنْكَ، وَلَا تَأكُل حَرَاماً وَتُصَلِّي أَوَّلَ الصُّفُوفِ فَلَا
يُقْبَلُ مِنْكَ ([9]).
6ـ تقديم العمل المتعدي نفعه إلى الغير على العمل القاصر نفعه على صاحبه،
كمن حج حجة الفريضة، ويريد أن يحج حجة نافلة وكان الحج سيكلفه الكثير من
المال، فإن الأَوْلى أن ينفق هذا المال على مَنْ يحتاج إليه كمساعدة من
يريد الزواج أو كفالة يتيم أو فقير، أو أن يسدد دين عن أحد معسر ونحوه.
وكمن يستطيع أن يعلم الناس علماً نافعاً في وقت من الأوقات أو يذكر الله
وحده منفرداً، فقيامه بتعليم الناس أولى، وذلك لتعدي نفعه وشمول خيره.
7ـ تقديم العلم الذي يترتب عليه ثمرة وعمل على العلم النظري الذي لا يترتب
عليه شيء، فهناك من يشغل نفسه بقضايا لا تقدِّم ولا توخِّر، ويضيع وقته
وأوقات الآخرين فيما لا ينفع، أو فيما ضرره أكبر من نفعه، كمن يبحث هل
والدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة أم في النار، وقد يستغرق أحدهم
سنة كاملة في البحث ويخرج للناس بمجلد ضخم يؤيد فيه أحد الأقوال، وهناك
الكثير من المسائل المستجدة التي تحتاج إلى بحث ودراسة هي أولى بالعناية من
هذه المباحث.
وكمن يبحث في الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، ومن الذي كان الحق
معه، وكأن أحداً قد نصَّبه قاضياً عليهم، أو محامياً عن أحدهم، وخير ما
يقال لمن يفعل هذا هو ما قاله أبو زُرْعة الرَّازي رحمه الله: (ربُّ معاوية
ربٌّ رحيم، وخصمُ معاوية خصمٌ كريم، فما دخولك بينهما؟!) ثم ماذا يترتب
على هذا من عمل، وهل هو الذي سيعطيهم الأجر والثواب أو سيصيبهم بالإثم
والعقاب، وقد قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ
وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}،
وقال عليه الصلاة والسلام: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا
يَعنِيه) رواه الترمذي، والاشتغال فيما لا يعني وإعطاؤه أهمية أكبر من
حجمه سيؤدي إلى التفريط فيما يهمنا ويعنينا.
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والحمدُ للهِ ربِّ العَالمين.
-------------------------------
([1]) ـ رواه الدارقطني في فضائل الصَّحابة (19)، والطبري في تاريخه 3: 128، وابن عساكر في تاريخ دمشق 44: 343.
([2]) ـ رواه ابن أبي شيبة في المصنف 8: 147، وأبو نعيم في الحلية 1: 50.
([3]) ـ رواه ابن أبي شيبة في المصنف 7: 268 (110).
([4]) ـ رواه عبد الرزاق في مصنفه 11: 343، (20713)، ومعمر بن راشد في جامعه (1324)، وابن عساكر في تاريخ دمشق 44: 268.
([5]) ـ رواه أبو نعيم في حلية الأولياء 9: 269.
([6]) ـ لطائف المعارف لابن رجب: 257.
([7]) ـ انظر: جامع العلوم والحكم شرح الحديث التاسع.
([8]) ـ رواه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم 5: 125.
([9]) ـ رواه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم 5: 127