المقدمة :
وتشتمل على الحمد والشكر لله عز وجل والثناء عليه بما هو أهله ، ثم الصلاة
والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم الوصية بتقوى الله عز
وجل في السر والعلن ..... أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات :
لقد
ذكرت لنا بعض مصادر التاريخ أن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل تولى
حكم الأندلس سبعا وعشرين سنة من سنة ثمانين ومئة هجرية ، وكان مستبدا طاغية
سفاكاً للدماء، شديد الوطأة على معارضيه ، واشتغل باللهو والمجون ومجالس
العبث مع ندمائه ، على خلاف سيرة أبيه وجده .
فكرهه
شعب قرطبة عاصمة الأندلس ، وكان كبار فقهاء المالكية من تلاميذ الإمام
مالك ، كيحيي بن يحيي الليثي ، وعيسي بن دينار ، وطالوت الفقيه وغيرهم كثير
، قد كرهوه ، وكرهوا استبداده وطغيانه ، وقمعه للناس ، وانشغاله باللهو
والعبث والمحرمات فهاجموه من على منابرهم ، لا تأخذهم في الله لومه لائم.
فما
كان من الحكم بن هشام إلا أن قبض على كثير من معارضيه ووجه إليهم تهمة
التدبير لقلب لنظام الحكم ، وأعدمهم جميعاً وكانوا اثنين وسبعين رجلاً من
علماء وفقهاء وأعيان قرطبة ، منهم بعض أفراد أسرته ، ولم يكتف بذلك فقط بل
صلبهم على شاطئ النهر المقابل لقصره في قرطبة إمعاناً في التنكيل بهم والردع
لغيرهم أن يفعلوا مثل فعلهم ، وقام بفرض مزيد من الضرائب والعشور على
الأقوات ليضيق على الناس أرزاقهم ، فلا يبقى عندهم مجال للنقد أو المعارضة .
إلا
أن هذه البشاعة والظلم والقسوة في التعامل مع المعارضين والمخالفين ما
كانت لترد شعب قرطبة الثائر على حاكمه الذي ملأ بلده ظلما وطغيانا
واستبدادا وفسادا .
إلا أنه وفي سنة اثنين ومئتين هجرية حدثت حادثة كانت كفيلة بإشعال ثورة الغضب الشعبي في قرطبة ، ذلك
أن أحد مماليك الحكم الجبار الطاغية ، سلم سيفه لصقيل يصقله ، ويقال :
بأنهما اختلفا على الأجرة ، فقام المملوك محتمياً بسلطة سيده بضرب الصقيل
بالسيف حتى قتله ، وفر هارباً إلى قصر الأمير ، وهنا طفح الكيل بالناس ،
فاندلعت ثورة غضب شعبية عارمة ، وكان أول أحياء قرطبة ثورة وأشدها انتفاضة
هم سكان حي يعرف بالربض القبلي ، معظم ساكنيه من العلماء والفقهاء وأهل
الدين والعباد والصالحين .
توجهت
الجماهير الغاضبة إلى قلعة الحكم الطاغية للقبض على القاتل وتنفيذ حكم
القصاص فيه ، فلبس الحكم بن هشام لامة الحرب وخرج لقتالهم بنفسه ، وحين رأى
أنه لا طاقة له بمواجهتهم أو قتالهم ، وأن الأمر يكاد يخرج من يده ، أقدم
على عمل يتناسب مع ظلمه وجبروته وطغيانه ، إذ أمر بعض جنده أن يتسللوا خفية
إلى بيوت الغاضبين الثائرين ولم يكن بها سوى النساء والأطفال ويحرقوها
ويضرموا فيها النيران على من فيها .
فلما
علم الثائرون بالذي حصل لدورهم وأهليهم وأطفالهم ارتدوا مسرعين لنجدتهم
وإنقاذهم ، وهنا انفرط عقد الثورة الشعبية ، وأحاط جند الحكم ببيوت الثوار ،
وأوقعوا بهم مقتلة عظيمة ، وأخذوا منهم أسرى ثلاثمائة قتلوهم وصلبوهم ،
وأقاموا ينهبون ويحرقون ويخربون ثلاثة أيام .
وبعد
القضاء على هذه الثورة الغاضبة ، أمر الحكم بن هشام بإجلاء من بقي من أهل
الربض القبلي بعد القتل والصلب والحرق عن الأندلس كلها ، وأمهلهم لذلك
ثلاثة أيام تفرقوا فيها إلى الإسكندرية وغيرها .
ولم
يمهل الله عز وجل الحكم بن هشام بعد هذه الحادثة طويلا ، انتقم الله منه
لأهل الربض ، وضربه بأنواع مختلفة من الأمراض والعلل المتضادة ، وندم على
جريمته الشنيعة بحق مواطنيه وشعبه من أهل الربض ، وتمنى أنه لو لم يفعل
معهم ما فعل ثم هلك .
ألا
ما أشبه الليلة بالبارحة لو أمعنتم النظر ــ عباد الله ــ في أحداث ثورة
الربض في قرطبة واستعرتم سير أحداثها، وقمتم بتغيير الزمان والمكان
والأسماء . فالحكاية هي الحكاية ، والحدث هو الحدث ، مهما طال الزمان أو
بعد المكان وتغيرت الوجوه والأسماء، فإنما هو التاريخ يعيد نفسه ، ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) .
فالطغاة
المستبدون على مر العصور وفي جميع أدوار التاريخ يحلون جميع مشاكلهم
بطريقة واحدة هي طريقة ( إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم ) ، وبسياسة واحدة
هي سياسة ( من اعترض انطرد ) فلا مجال لحوار ينقص من سلطاتهم ، ولا لدعوات
أو مبادرات تنال من شرعيتهم..! شعارهم قي ذلك : ( إما أنا أو الطوفان ، إما
أنا أو الفوضى ، إما أنا أو الإرهاب ، إما أنا أو الصوملة والعرقنة من
طاقة إلى طاقة ومن باب إلى باب ومن زنقة إلى زنقة ) .
الحل
الأمني كان ولا يزال هو الحل الأمثل والوحيد في خزانة أفكارهم ، لا يرون
له بديلاً، ولا ينتهجون عنه سبيلاً، فهو الحل الأكثر نجاعة، والأشد
تأثيراً، والأسرع قضاءً، فالاستماع لنداءات المقهورين والمحرومين
والمضطهدين، تكلفته في نظرهم كبيرة وتبعاته باهظة، على الرغم من أنه فاتحة
الحل الصحيح والطريق القويم والذي عادة ما ينتهي بتقويض دعائمهم ، وتهاوي
عروشهم ، لذلك كان الاستماع لمطالب الشعوب من وجهة نظر المستبدين والظالمين
مرفوضا على مر العصور، شعارهم في ذلك : (من قال لي اتق الله ذهبت به خلف
الشمس ) .
على حد قول الشاعر :
زار الرئيس المؤتمن بعض ولايات الوطن .
وحين زار حينا قال لنا :
هاتوا شكاواكم بصدق في العلن ولا تخافوا أحدا .. فقد مضى ذاك الزمن .
فقال صاحبي حسن :
يا سيدي .. أين الرغيف واللبن ؟ وأين تأمين السكن ؟ وأين توفير المهن ؟
وأين من .. يوفر الدواء للفقير دونما ثمن ؟
يا سيدي .. لم نر من ذلك شيئا أبدا .
قال الرئيس في حزن :
أحرق ربي جسدي أكل هذا حاصل في بلدي ؟!!
شكرا على صدقك في تنبيهنا يا ولدي سوف ترى الخير غدا .
وبعد عام زارنا .
ومرة ثانية قال لنا :
هاتوا شكاواكم بصدق في العلن .
ولا تخافوا أحدا فقد مضى ذاك الزمن .
لم يشتك الناس ! فقمت معلنا :
أين الرغيف واللبن ؟ وأين تأمين السكن ؟ وأين توفير المهن ؟
وأين من .. يوفر الدواء للفقير دونما ثمن ؟
معذرة يا سيدي .. وأين صاحبي حسن ؟!!
إخوة الإيمان والإسلام :
لقد
عاشت مدينتكم تعز الأبية في أيامها الماضية ذكرى أليمة قاسية ، هي الذكرى
الأولى لإحراق ساحتها ساحة الحرية والتي عاشتها المدينة في مثل هذه الأيام .
فما أبشعها من جريمة ! وما أفظعها من حادثة ! القلب لها يحزن والعين لها تدمع والروح لها تئن والأجساد تثور ويسكنها الغضب لذكراها .
جريمة
بشعة شنعاء نكراء بكل المقاييس ، تجرمها الشرائع السماوية والقوانين
الدولية والأعراف القبلية ، سفكت فيها دماء ، وأزهقت فيها أرواح ، وحرقت
فيها مساكن وخيام ، ونهبت فيها أموال ، ودنست فيها مقدسات ، وانتهكت فيها
حرمات .
ضد
شباب أعزل من أبناء هذا المدينة معتصمين مسالمين ثبت للعالم كله أنهم لم
يحملوا سلاحاً ولم يكسروا باباً ولم يخضدوا شجراً أو ينفروا صيداً ، ولم
يحرقوا أو يخربوا أو يعتدوا على نفس أو ما ل أو عرض .
لا
لشيء إلا لأنهم يطالبون بإسقاط أنظمة ظالمة ، وإصلاح أوضاع فاسدة ، يريدون
التحرر من القهر والظلم والفساد ونهب الثروات ومصادرة الحقوق والحريات ،
ويطالبون بإقامة الشرع وتحقيق العدل .
غير
أن مطالبتهم هذه جوبهة بوحشية وعنف وقتل بالرصاص الحي وبالقنابل المسيلة
للدموع وربما بالأسلحة المحرمة دوليا، بل تعداها إلى ما هو أفظع وأشد.
أيها المؤمنون والمؤمنات :
لقد عشنا جميعا هذه الذكرى الأليمة ونحن نسمع ونقرأ ونشاهد ما جري ويجري لأهلنا وإخواننا في سوريا الصابرين المصابرين المرابطين .
فيا
لفداحة المصيبة ! ويا لهول الفاجعة ! ويا لجلل النكبة ! ويا لعظيم البلية !
شهداء يوميا بالعشرات والمئات ، جرحى ومعتقلين بالمئات والآلاف ، قتل وذبح
وتهجير ، هدم وحرق وتخريب ، اغتصاب وإهانة وتعذيب ، مشاهد مرعبة ، ومناظر
مقززة ، ومآس مروعة ، جثث وجماجم، حصار وتشريد ، تقتيل ودمار ، حرب إبادة
بشعة ، انتهاك صارم للقيم الإنسانية ، والأعراف الدولية ، مصائب عظيمة ،
ونكبات جسيمة ، وبلايا شديدة ، إرهاب وقتل وترويع وتعذيب يفوق الوصف ويجاوز
الخيال ويخرج عن دائرة السلوك الإنساني السوي .
كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم وكأن السوريين لا بواكي لهم .
فأين
العالم بهيئاته ومنظماته ؟! أين مجلس أمنهم ؟! أين هيئة أممهم ؟! أين
محكمة عدلهم ؟! أين هم من بكاء الثكالى ، وصراخ اليتامى ، وأنين الأرامل ،
والتهجير عن الأرض ، وتدنيس العرض ؟! أين هي الشعارات ؟! وما الذي يريده
الضمير العالمي ؟!
فأين تذهب اللقاءات ؟! وما الذي تخرج به الزيارات ؟!
كم
هي الصرخات والاستغاثات التي تطلقها النساء هناك ، والأطفال ، والشيوخ ،
والصغار ، والكبار ، وا غوثاااااه ... وا عرباااااه ... وا إخوتاااه ، ونحن
وكأن الأمر لا يعنينا .
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم .
لا مست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم .
فما الذي أعطته لإخواننا وأهلنا في سوريا هذه اللقاءات والاجتماعات والمشاورات ؟
لم تعطهم حقا ، ولم توقف فيهم قتلا ، إنما حصيلتها ضروب مواعيد ، وشجب واستنكار وتنديد .
إخوة الدين والعقيدة :
إن إخوانكم في سوريا يعيشون مأساة يعجز اللسان عن تصويرها ، ويخفق الجنان عند عرض أحداثها ، ويعي البيان عن ذكر مآسيها ، ويقصر الوصف عن بيان أبعادها وخطورتها .
إنها والله مأساة بكل المقاييس ، ومعضلة بجميع المعايير ، ليس لها من دون الله كاشفة فرجماك ربنا رحماك .
إن الارتباط التاريخي لكم يا شعب الإيمان والحكمة بشعب سوريا يستوجب علينا أن نتألم لألمهم وأن نتوجع لوجعهم وأن نحزن لحزنهم وأن
نشعر بعظيم مصيبتهم وفداحة نكبتهم وبليتهم وأن نتحرك لأجلهم وأن تلهج
ألسنتنا في صلواتنا ومساجدنا بالدعاء لهم والتذكير بقضيتهم .
وكيف لا ؟ وهم إخواننا ونحن إخوانهم (المؤمن للمؤمن كالبنيان أو كالبنان يشد بعضه بعضا)
والمؤمنون في توادهم وتعاطفهم وتكاتفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو
تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، والقواسم المشتركة التي تربطهم بشعب
الإيمان والحكمة وتربط شعب الإيمان بهم على الخصوص قديمة وتاريخية :
من
ذلك قصة نبي الله سليمان عليه صلاة الله وسلامه مع بلقيس رضي الله عنها
جرت أحداثها ووقعت وقائعها ومجرياتها بين الشام واليمن انتهت برباط الزواج
الوثيق بينهما .
ثم إن هناك حديثا صحيحا فيه ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أن القبائل المنحدرة من سبإ ــ وهو أبو اليمن كلها ــ عشر قبائل :
ستة منها استوطنوا اليمن ، وأربعة منهم وهم ( لخم ، وعاملة ، وغسان ، وجذام ) استوطنوا الشام
.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه بالبركة أكثر من مرة بين الشام واليمن فقال فيما صح عنه : ( اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا ) ولم يشرك معهما أحدا غيرهما .
وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله استقبل بي الشام وولى ظهري اليمن وقال يا محمد: إني جعلت ما أمامك غنيمة ورزقا وما خلفك مددا ... ) .
بالله
ــ يا مسلمون ــ صفوا لي حال قلوبكم، وحال ضمائركم ؟!كيف هي؟ وبأي حال هي ؟
وهي ترى تلك الفظائع والفجائع، والمجازر والجرائم، وشلالات الدم وحماماته
في حق شعب أعزل جريمته فقط أنه
يريد حقه الطبيعي في العيش بحرية وكرامة؟! وأنه يبحث عن الحياة الرضية
والعيشة الهنية والمستقبل الأفضل والغد المشرق .
ألا
تعتصر القلوب ألماً، بل وحق لها أن تنزف دماً وهي تشاهد وترى الكرامة
الأنسانية تُداس، والحقوق تُصادر، والحرية تُسلب، والأرواح تُستباح، مدن
وقرى وبيوت وأرياف تُدك وتحاصر بالدبابات والمجنزرات، حتى بيوت الله
ومحاريب المساجد انتهكت قداستها في بلد مسلم وارتكبت فيها أبشع الجرائم،
فالمحاريب التي تتلى فيها آيات الله آناء الليل وأطراف النهار هي اليوم
جريحة تنزف دماً، سلوا مدن حمص وحلب وقرى دير الزور وريف إدلب وحولة .
سلوا
شوارعها وطرقاتها، وأزقتها وبيوتاتها، وساحاتها ومنتزهاتها، سلوا كل شبر
من ترابها، وكل شجر من أشجارها فعندها وعند أهلها الخبر اليقين، ماذا دهاها
من ظلم ومآسٍ، وجرائم وفظائع، سلوا حواضرها وأريافها، ومدنها وقراها،كلها
تشكو ظلم الظالمين، وعربدة الفاسدين المفسدين، آهٍ لو كان لها لسان لأخرست
كل بليغ، ولفضحت كل فصيح، ولكشفت كل خيانة وجريمة .
لكنا نقول لهم بقول الله : (وَلَا
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ
قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي
مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ
فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الْجِبَالُ (46) ) .