فهذه وقفاتٌ سريعة حول يوم من أيام الله العظيمة، خير
يوم طلعتْ عليه الشمس "يوم الـجُمُعة"، أحببت أنْ أذكِّر بها نفسي أولاً،
وسائرَ أخواني المسلمين ثانيًا.
الوقفة الأولى: سبب تسميتها:
ذكر العلماء تعليلاتٍ عدة لسبب تسمية "الجُمُعة" بهذا الاسم، فقيل: لأنَّها تجمع الخلقَ الكثير.
وقيل: لأنَّ سعد بن زرارة - رضي الله عنه - كان يجمع بالأنصار يوم الجمعة.
وقيل: لأنَّ كعب بن لؤي كان يجمع قومَه في الجاهلية في ذلك اليوم، ويبيِّن لهم تعظيمَ الحرم.
وقيل: لأنَّ اكتمال الخلق حصل في يوم الجمعة.
وقيل:
لأنَّ آدم اكتمل خلقُه يوم الجمعة، وهذا أصح؛ لحديث أبي هريرة - رضي الله
عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خيرُ يومٍ طلعت عليه
الشَّمس يومُ الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدْخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرج
منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة))[1].
الوقفة الثانية: بعض خصائصها:
ليوم الجمعة خصائصُ عدة، من أهمِّها ما يلي:
أولاً: استحبابُ كثرةِ الصلاة على النبي - صلى الله عليه
وسلم - فعن أَوْس بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: ((إنَّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه،
فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ))، قال: فقالوا: يا رسول الله، وكيف تُعرض
صلاتُنا عليك، وقد أَرِمْتَ؟ قال: يقولون: بَلِيتَ، قال: ((إنَّ الله -
تبارك وتعالى - حرَّم على الأرض أجسادَ الأنبياء صلَّى الله عليهم))[2].
فللصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة
فضيلةٌ كبيرة، قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "ورسول الله - صلى
الله عليه وسلم - سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيَّام، فللصلاة عليه في
هذا اليوم مَزِيَّةٌ ليست لغيرِه، مع حكمةٍ أخرى، وهي أنَّ كلَّ خيرٍ
نالتْه أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده - صلى الله عليه وسلم -
فجمع الله لأمته به بين خيرَي الدُّنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم
فإنما تحصل يوم الجمعة؛ فإنَّ فيه بعثَهم إلى منازلهم، وقصورهم في الجنة،
وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنةَ، وهو يومُ عيدٍ لهم في الدُّنيا،
ويومٌ فيه يُسْعِفُهم الله تعالى بطلباتِهم وحوائجهم، ولا يَرُدُّ سائلَهم،
وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه، وعلى يده، فَمِنْ شُكْرِهِ وحمدِه،
وأداءِ القليل من حقِّه - صلى الله عليه وسلم - أنْ نكثرَ من الصلاة عليه
في هذا اليوم وليلته"[3].
ثانيًا: صلاة الجمعة التي هي من آكد فروضِ الإسلام، ومن
أعظم مجامع المسلمين، من تركها تهاونًا بها طَبَعَ الله على قلبه؛ فعن أبي
الجعد الضمري، وكانت له صحبةٌ، أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((من ترك ثلاثَ جُمع تهاوُنًا بها، طبع الله على قلبِه))[4].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره: ((لَينتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهِم
- أي: تركهم - الجُمُعات، أو لَيختِمَنَّ الله على قلوبِهم[5] ثم
لَيَكونُنَّ من الغافلين))[6].
ثالثًا: الأمر بالاغتسال فيه للصلاة، فمن العلماء من
أوجبه؛ فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: ((غسل يوم الجمعة واجبٌ على كلِّ مُحْتَلِمٍ))[7]؛ أي: بالغ.
ومن العلماء من أوجبه في حقِّ من به رائحةٌ يحتاج إلى
إزالتها؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان الناسُ مَهَنَةَ أنفسِهِم -
أي: خَدَمَةَ أنفسِهم - وكانوا إذا راحوا إلى الجمُعة راحوا في هيئتهم -
على حالتهم من التعرق وغيره - فقيل لهم: ((لو اغتسلتم))[8].
وفي رواية: أنَّها قالت: كان الناسُ أهلَ عمل، ولم يكن
لهم كُفَاةٌ - أي: لم يكن لهم خَدَمٌ يكفونهم عن العمل - فكانوا يكونُ لهم
تَفَلٌ - أي: رائحة كريهة - فقيل لهم: ((لو اغتسلتم يوم الجمعة))[9].
رابعًا: استحباب التَّبْكير للذهاب إلى المسجد لصلاة
الجمعة بعد طلوع الشمس؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((من اغتسل يوم الجمُعة غسلَ الجنابة، ثمَّ راح
فكأنما قرَّبَ بَدَنَةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قَرَّبَ بقرةً،
ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قَرَّبَ كبشًا أقرنَ، ومن راح في الساعة
الرابعة فكأنما قَرَّبَ دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قَرَّبَ
بيضةً، فإذا خرج الإمامُ حضرت الملائكة يستمعون الذِّكر))[10].
خامسًا: قراءة سورة الكهف في يومِها؛ فعن أبي سعيد - رضي
الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قرأ سورة الكهف
يوم الجمعة، أضاءَ له من النُّورِ ما بين الجمعتين))[11].
سادسًا: أنَّ فيها ساعةَ إجابة؛ فعن أبي هريرة - رضي
الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ في الجمُعة
لساعةً لا يوافقها مسلمٌ قائمٌ يصلِّي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه
إياه))[12]، وهذه الساعة من دخول الإمام، إلى أن تقضى الصلاة، ومن بعد صلاة
العصر إلى أن تغرُبَ الشمسُ.
سابعًا: القراءة في فجر الجمعة "الم السجدة"، وفي
الركعة الثانية: ? هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ? [الإنسان : 1] كاملتَين، والحكمة في ذلك
ما بيَّنه ابنُ القيم - رحمه الله - بقوله: "ولما خلق الله السمواتِ
والأرضَ وما بينهما في ستة أيام، وتعرَّف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله
وأنبيائه، شَرَعَ لهم في الأسبوع يومًا يذكرهم فيه بذلك، وحكمةِ الخلق، وما
خُلِقوا له، وبِأَجَلِ العالَـمِ، وطيِّ السموات والأرض، وعود الأمر كما
بدأه سبحانه وعدًا عليه حقًّا، وقولاً صِدْقًا، ولهذا كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي (آلم تنزيل) و(هل أتى على
الإنسان)؛ لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ
والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثهم من القبور إلى الجنَّةِ والنار، لا لأجلِ
السجدة، كما يظنُّه من نَقَصَ علمُه ومعرفتُه، فيأتي بسجدةٍ من سورة أخرى،
ويعتقد أنَّ فجر يوم الجمعة فُضِّلَ بسجدة، ويُنكِر على من لم يفعلها.
وهكذا كانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - في المجامع
الكبار كالأعياد ونحوها، بالسورة المشتملة على التوحيد، والمبدأ والمعاد،
وقصص الأنبياء مع أممهم، وما عامَلَ الله به مَنْ كَذَّبَهم وكَفَرَ بهم من
الهلاك والشَّقاء، ومَنْ آمن منهم وصدَّقهم من النجاة والعافية.
كما كان يقرأ في العيدين بسورتي: ? ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ ? [ق : 1] و? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ?
[القمر : 1]، وتارة بـ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? [الأعلى : 1]
و? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? [الغاشية : 1]، وتارة يقرأ في
الجمُعة بسورة الجمعة؛ لما تضمنتْ من العائِقِ عنها والأمرِ بإكثار ذكر
الله؛ ليحصل لهم الفلاح في الدَّارين، فإنَّ في نسيان ذكره تعالى العطبَ
والهلاكَ في الدارين، ويقرأ في الثانية بسورة: ? إِذَا جَاءَكَ
الْمُنَافِقُونَ ? [المنافقون : 1]؛ تحذيرًا للأمة من النفاق المردي،
وتحذيرًا لهم أن تشغلَهم أموالُهم وأولادُهم عن صلاة الجمعة وعن ذكر الله،
وأنهم إنْ فعلوا ذلك خسروا ولا بد، وحضًّا لهم على الإنفاق الذي هو من أكبر
أسباب سعادتهم، وتحذيرًا لهم من هجوم الموت، وهم على حالةٍ يطلبون
الإقالة، ويتمنون الرَّجعة ولا يجابون إليها"[13].
ثامنًا: أنَّ فيها الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله
وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسول - صلى الله عليه وسلم -
بالرسالة، وتذكير العباد.
تاسعًا: ليس لها راتبة قبلها، وإنما راتبتها بعدها؛ فعن
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إذا صلَّى أحدُكم الجمعة، فليصلِّ بعدَها أربعًا))[14].
وعن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يصلي بعد الجمعة ركعتين"[15].
وكان ابنُ عمرَ - رضي الله عنه -: إذا صلى الجمعة
بمكَّةَ تقدم فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلَّى
الجمعة ثمَّ رجع إلى بيته فصلى ركعتين، ولم يصلِّ في المسجد، فقيل له،
فقال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلُ ذلك"[16].
عاشرًا: التفرُّغ للعبادة يوم الجمعة، قال ابن القيم -
رحمه الله - وهو يتحدث عن خصائص يوم الجمعة: "إنه اليوم الذي يُستحب أنْ
يُتفرغ فيه للعبادة، وله على سائر الأيام مَزِيَّةٌ بأنواع من العبادات،
واجبة ومستحبة، فالله سبحانه جعل لأهل كلِّ ملة يومًا يتفرغون فيه للعبادة،
ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة، وهو في الأيام كشهرِ
رمضانَ في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صح
له يوم جمعته وسلم، سلمت له سائرُ جمعته، ومن صح له رمضان وسلم، سلمت له
سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له، صح له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان
الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر"[17].
الوقفة الثالثة: حكم صلاة الجمعة:
صلاة الجمعة واجبةٌ على كلِّ مسلمٍ، ذكر، بالغ، عاقل، لا
عذرَ له؛ لقوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?
[الجمة: 9]
ولحديث حفصةَ زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ
النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رَواحُ الجمعة واجبٌ على كلِّ
محتلمٍ))[18]، والإجماع منعقد على وجوبِها.
فلا تجب على الكافر وجوب أداءٍ؛ لفقد التوحيد، ولا على المرأة بالإجماع، ولا على غيرِ البالغ العاقل؛ لعدم تكليفه.
ولا تجب على مسافرٍ سفرَ قصرٍ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون في الحجِّ وغيره، فلم يصلِّها أحد منهم.
الوقفة الرابعة: الفرق بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر:
صلاة الجمعة فريضة مستقلة، وليست بدلاً من الظهر؛ وذلك
لأنها تخالف صلاة الظهر في أحكام كثيرة، وهي أفضلُ من صلاة الظهر، وآكدُ
منها؛ لأنه ورد على تركها زيادةُ تهديد، ولأن لها شروطًا وخصائصَ ليست
لصلاة الظهر، ولا تجزئ عنها صلاة الظهر ممن وجبت عليه، ما لم يخرج وقتُها،
فإذا خرج وقتها، فصلاة الظهر حينئذٍ تكون بدلاً عنها.
الوقفة الخامسة: وقت صلاة الجمعة:
الجمعة لها ثلاثة أوقات:
الوقت الأول: وقت الأداء.
الوقت الثاني: وقت الاستحباب.
الوقت الثالث: وقت القضاء.
أولاً: وقت الأداء: ويبدأ ذلك بزوال الشمس عن وسط
السَّماء، لكنه لو تقدم شيئًا يسيرًا (5 -10) دقائق، فجائزٌ، وآخرُ وقتِ
الأداء: آخرُ وقت صلاة الظهر، وهو: إذا صار ظلُّ كلِّ شيءٍ مثلَه إلا فيء
الزوال.
ثانيًا: وقت الاستحباب لصلاة الجمعة، وهو أول الوقت حتى
في شدة الحر، فلا يشرع الإبراد؛ فعن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ
النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس"[19].
ثالثًا: وقت القضاء: إذا خرج وقت صلاة الظهر، ولم يصلوا جمعةً، فإنهم يصلونها ظهرًا[20].
الوقفة السادسة: شروط صحة الجمعة:
شروط صحة الجمعة، هي:
1- دخول الوقت؛ لأنها صلاة مفروضة، فاشتُرِطَ لها دخولُ
الوقت كبقية الصلوات، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده؛ لقوله تعالى: ? إِنَّ
الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ? [النساء :
103].
ووقتها وقت صلاة الظهر؛ أي: عندما تزول الشمس عن منتصف
السماء جهةَ الغرب؛ فعن سلمةَ بنِ الأكوع - رضي الله عنه - قال: "كنا نجمع
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع
الفَيءَ"[21].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يصلِّي الجمعة حين تميل الشَّمسُ"[22].
ويصحُّ فعلُها في الساعة السادسة قبلَ الزوال؛ فعن أبي
هريرة - رضي الله عنه - وفيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((... ومن راح في الساعة الخامسة فكأنَّما قرَّب بيضةً، فإذا خرج الإمام
حضرت الملائكة يستمعون الذِّكر))[23]، وخروج الإمام يكون في السادسة.
2- أن يكون المصلُّون ثلاثةَ مستوطنين بمساكن مبنيَّة
بما جرت العادة بالبناء به، فلا تصح من أهل الخِيام، وبيوت الشَّعر الذين
ينتجعون في الغالب مواطن القَطْر، وينقلون بيوتهم ونحو ذلك؛ فقد كانت قبائل
العرب حول المدينة، ولم يأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بصلاة الجمعة.
3- تقديم خطبتين؛ لمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم -
عليهما، وكذا لمواظبة خلفائه الراشدين؛ فعن عبدالله بنِ عمرَ أنَّ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان يخطب الخطبتين، وهو قائمٌ، وكان يفصل
بينهما بجلوس"[24]، ويشترط لهما النية، والموعظة التي تناسب الحال.
الوقفة السابعة: صفة صلاة الجمعة:
صلاة الجمعة ركعتان بالإجماع، ويُجهر فيهما بالقراءةِ،
ويُسَنُّ أن يُقرأ في الركعة الأولى منهما بعد الفاتحة سورة الجمعة، وفي
الثانية بعد الفاتحة سورة المنافقين؛ فعن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -
أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة
(الم تنزيل السجدة)، و(هل أتى على الإنسان حين من الدهر)، وأنَّ النبي -
صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة،
والمنافقين"[25].
أو يقرأ في الأولى بـ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى
? [الأعلى : 1]، وفي الثانية بـ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ?
[الغاشية: 1]؛ فعن النُّعمان بنِ بشير - رضي الله عنه - قال: "كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ(سبح اسم ربك
الأعلى)، و(هل أتاك حديث الغاشية)، قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم
واحد يقرأ بهما أيضًا في الصَّلاتين"[26].
فيقرأ بالجمعة والمنافقين أحيانًا، وأحيانًا بـ(سبح)
و(الغاشية)، ولا يقسم سورة واحدة من هذه السور بين الركعتين؛ لأنَّ ذلك
خلاف السنة.
الوقفة الثامنة: بِمَ تدرك الجمعة؟
تدرك الجمعة بإدراك ركعةٍ؛ فإذا أدرك مع الإمام ركعةً
أتمها جمعةً؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: ((من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك الصلاةَ))[27].
وعن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: ((من أدرك ركعة من الجمعة، أو غيرِها، فقد تَمَّتْ
صلاتُه))[28].
وإن أدرك أقلَّ من الركعة بأن رفع الإمام رأسَه من
الركعة الثانية قبل دخوله معه، فاتته صلاة الجمعة، فإذا سلَّم الإمام
أتمَّها ظهرًا.
الوقفة التاسعة: هل للجمعة سنة قبلية؟
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله -: "لم يكن[29]
يُصلِّي قبل الجمعة بعد الأذان شيئًا، ولا نقل هذا عنه أحدٌ، فإنَّ النبي -
صلى الله عليه وسلم - كان لا يؤذَّنُ على عهده إلا إذا قعد على المنبر،
ويؤذِّن بلالٌ ثم يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبتين، ثمَّ يقيم
بلال فيصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس، فما كان يمكن أنْ يصلي
بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه - صلى الله عليه
وسلم - ولا نَقَلَ عنه أحدٌ أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة، ولا
وقَّتَ بقوله: صلاة مقدرة قبل الجمعة، بل ألفاظُه - صلى الله عليه وسلم -
فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غيرِ توقيت،
كقوله: ((من بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، وصلى ما كتب له))[30].
وهذا هو المأثور عن الصحابة؛ كانوا إذا أتوا المسجد يومَ
الجمعة يصلُّون من حين يدخلون ما تيسَّر، فمنهم من يصلي عشر ركعات، ومنهم
من يصلي اثنتي عشرةَ ركعة، ومنهم من يصلي ثمانِ ركعات، ومنهم من يصلِّي أقل
من ذلك؛ ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة
موقَّتة بوقتٍ مقدرة بعدد؛ لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي - صلى الله عليه
وسلم - أو فعله، وهو لم يسن في ذلك شيئًا لا بقوله ولا فعله، وهذا مذهب
مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وهو المشهور في مذهب أحمد"[31].
والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-------------------------
[1] رواه مسلم (854).
[2] رواه أبو داود (1047) والنسائي (1374) وابن ماجه (1085) وأحمد (15729). وصححه الألباني في صحيح أبي داود (962).
[3] زاد المعاد (1/376).
[4] رواه أبو داود (1052). والنسائي (1369)، ورواه أحمد (15072) بزيادة: ((من غير عذر))، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (965).
[5] الختم: الطبع والتغطية، ومنه قوله تعالى: ? خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ? [البقرة: 7]؛ أي: طبع.
[6] رواه مسلم (865).
[7] رواه البخاري (879) ومسلم (846).
[8] رواه البخاري (903).
[9] رواه مسلم (847).
[10] رواه البخاري (801) ومسلم (850).
[11]
رواه الحاكم في المستدرك (3392)، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"،
والبيهقي في السنن الصغرى (635)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب
(736).
[12] رواه البخاري (6400) ومسلم (852).
[13] زاد المعاد (1/421- 422).
[14] رواه مسلم (881).
[15] رواه البخاري (937) ومسلم (882)، واللفظ له.
[16] رواه أبو داود (1130)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1034) بشواهده، وصححه في المشكاة (1187).
[17] زاد المعاد (1/398).
[18] رواه أبو داود (342) والنسائي (1371)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (370).
[19] رواه البخاري (904).
[20] شرح كتاب الصلاة من عمدة الطالب (741- 716) للشيخ/ خالد المشيقح.
[21] رواه مسلم (860).
[22] رواه البخاري (904).
[23] رواه البخاري (801) ومسلم (850).
[24] رواه النسائي (1416)، وأصله في البخاري (928).
[25] رواه مسلم (879).
[26] رواه مسلم (878).
[27] رواه البخاري (580) ومسلم (607).
[28] رواه النسائي (5574)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5994).
[29] أي: النبي - صلى الله عليه وسلم.
[30]
الحديث رواه أبو داود (345) وابن ماجه (1087) من حديث أوس بن أوس الثقفي -
رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من
غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام
فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها)).
[31] مجموع الفتاوى (24/188 - 189).[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]