لا خلاف بين المسلمين في
أن القرآن كلام الله المنزل بالوحي على قلب الرسول صلى الله عليه و سلم ، فالله
تعالى بذاته الجليلة ، هو المتكلم به و المنشئ له ، فميزته على سائر الكتب
السماوية أنه إلهي في لفظه و معناه .
و قد أثبت الباحثون المسلمون
قديما و حديثا هذه الحقيقة و أقاموا الأدلة على أن مصدر القرآن رباني محض ، تلقاه
الصحابة بالرضى و القبول، و تنافسوا في تعلمه و العمل به ، و برز منهم قراء و
مفسرون ، فنالوا حظا كبيرا ، و شرفا عظيما بسبب تمسكهم بهذا القرآن الكريم ،
فجعلوه منهجا لهم في حياتهم و وضعوا نصب أعينهم قول الرسول الكريم صلى الله عليه و
سلم لعلي بن أبي طالب : < ستكون فتن ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، و خبر ما بعدكم ، و هو الفصل و ليس بالهزل ،
من تركه من جبار قصمه الله ، و من ابتغى العزة في غيره ، أضله الله ، و هو حبل
الله المتين ، و هو الذكر الحكيم ، و هو الصراط المستقيم ، و هو الذي لا تزيغ به
الأهواء ، و لا تلتبس به الألسنة ، و لا يشبع منه العلماء ، و لا يخلق على كثرة
الرد ، و لا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق و من عمل به أجر و من حكم به عدل و من
دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم > .
هذا هو كتاب الله تعالى
الذي أضحى بهذه الأوصاف التي اشتمل عليها ، و بهذه الوظائف التي أنيطت به – محط
عناية المسلمين منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم إلى أن يقوم الناس لرب العالمين
، فكان هذا العمل المثمر و المجهود الجبار الذي بذله المسلمون على مر الأزمنة و
العصور، كل حسب طاقته ، و كل باعتبار بيئته ، و كل بما تيسر له من وسيلته،
فاستطاعوا أن ينالوا حظهم من مأدبة الله، و يشربوا من معينه الذي لا ينضب.
و على هذا الأساس، فلما
كان القرآن الكريم خير ما تصرف فيه الأعمال، و أفضل ما تبذل في سبيله الجهود، و
أكرم ما تشحذ في طلبه الهمم، و أنبل ما تقوى لبلوغه العزائم ، و أرقى ما تطمح إلى
تحصيله و حفظه المهج، و أنفس ما تسترخص في الحفاظ عليه النفائس، فقد كان للعلماء
على مر العصور نصيبهم الوافر في العناية بالقرآن الكريم و علومه، و منهجهم المتميز
في حفظه و الحفاظ عليه ، فكان لهم بذلك سبق يعرفون به بين الأقوام ، و شأن يذكرون
به بين الأنام، فأحببت أن أظهر فضلهم في هذا المجال، و أعرف ببعض علوم القرآن
الكريم التي تشكل النواة الصلبة نحو الانطلاق إلى تفسير كتاب الله و استنباط
أحكامه و الاستهداء بأنواره.
و لا يخفى عن بال
المهتمين بالدراسات القرآنية، أن أول علم نشأ في الاسلام هو حفظ القرآن في الصدور،
لدى و جب على كل مسلم أن يحفظ من القرآن ما تيسر له على الأقل ما يؤدي به الصلوات.
ثم بدات أسس التأليف منذ
القرن الثاني الهجري، و دونت الكتب في مجال علوم القرآن و التفسير، في حين يرى
محمد عبد العظيم الزرقاني : " أن بداية القرن الخامس الهجري تعد بداية لتاريخ
هذا الفن، أي منذ إيجاد الفصل بين علوم القرآن و تفسير القرآن " . حيث كتب
ابن ابراهيم بن سعيد الشهير بالحوفي ( ت 530هـ ) كتابا سماه ( البرهام في علوم
القرآن ) يقع في ثلاثين مجلدا، إلا أن الموجود منه الآن خمسة عشر مجلدا ( مخطوط في
دار الكتب المصرية ).
ثم جاء القرن السادس
الهجري، فألف فيه ابن الجوزي ( ت 597هـ) كتابين : أحدهما ( فنون الأفنان في علوم
القرآن ) ، و الثاني ( المحتبر في علوم تتعلق بالقرآن ) و هو مخطوط في دار الكتب
المصرية.
و في القرن السابع الهجري
ألف علم الدين السخاوي ( ت 641هـ) كتابا سماه ( جمال القرآن ) ، و ألف أبو شامة (
ت 665 هـ ) كتابا سماه ( المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز ) و هما عبارة
عن طائفة يسيرة و نبذة قصيرة عن علوم القرآن.
ثم أهل فجر القرن الثامن
الهجري ، فكتب فيه بدر الدين الزركشي ( ت 974 هـ ) كتابا سماه ( البرهان في علوم
القرآن )، و طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن و البركة، إذ ألف محمد بن
سليمان الكافيجي ( ت 872 هـ) كتابا وصفه السيوطي بأنه مختصر صغير لكتاب الزركشي، و
في هذا القرن، وضع جلال الدين البلقيني كتابا سماه ( مواقع العلوم من مواقع النجوم
).
و في نفس القرن ، ظهرت
سطوة جلال الدين السيوطي على هذا العلم، إذ كتب فيه كتابين كبيرين هما : ( التحبير
في علوم التفسير ) ضمنه ما ذكره البلقيني من الأنواع مع الزيادة، و هذا الكتاب قد
أوفى على الاثنين بعد المائة من الأنواع، و كتابه الثاني ( الاتقان في علوم القرآن
) ذكر فيه ثمانين نوعا علي سبيل الاجمال، ثم قال بعد أن سردها نوعا : " و لو
نوعت باعتبار ما أدمجته فيها ، لزادت الثلاثمائة "
و توقف التأليف بعد
السيوطي حتى ظهرت حركة التأليف في العصر الحالي، إذ ألف المرحوم الشيخ طاهر
الجزائري كتابا سماه ( البيان في علوم القرآن )، فرغ منه سنة 1335 هـ ، و لم يحل
القرن الرابع عشر الهجري حتى عرفت حركة التأليف و البحث في علوم القرآن انبعاثا من
جديد، حيث أقبل العلماء على الدراسة و البحث في علوم القرآن، إلا أن منهم من ركز
على بعض مباحث علوم القرآن مثل مصطفى صادق الرافعي الذي ألف في إعجاز القرآن، و
سيد قطب ( التصوير الفني في القرآن )، و مالك بن نبي ( الظاهرة القرآنية )، و منهم
من جمع بين عدة مباحث في علوم القرآن في مؤلفه مثل الدكتور صبحي الصالح في كتابه (
مباحث في علوم القرآن ) ، و مناع القطان الذي اختار نفس العنوان.
و الحق أن كتاب ( البرهان
) للزركشي، و ( الإتقان ) للسيوطي يعدان المرجع الأول و الأعلى لكل من جاء بعدهما.
على العموم، تعتبر علوم
القرآن أخصب مجال أبدع فيه " قلم " العلماء، و تفتقت فيه قريحتهم، و جاد
فيه فكرهم بأدق الاستنباط، و أروع البيان، و لأهميته عندهم، فقد توسعوا في أنواع
حتى جعلوه أكثر من مائة نوع، يستقل بعضها بنفسه، إليك بعض الأنواع و قبلها تعريف و
جيز بالقرآن الكريم .